أكاذيب مُجَنَّحَة
تاريخ: الخميس, نيسان 12, 2018

هل يمكن للأكاذيب أن تقوم مقام الحقيقة؟ قد يبدو السؤال غريباً، لكن هذا ما يحدث في الواقع، تحديداً في عالم السياسة. كما أن الحرب لا تكون بالأسلحة والصواريخ فحسب، وإنما بالأكاذيب والأضاليل أيضاً. وما يبدأ كذباً وتضليلاً ما يلبث أن يفضي إلى واقع، يخلق واقعاً أو تترتب عليه وقائع.
الحادثة المزعومة حول استخدام السلاح الكيماوي في دوما بريف دمشق نيسان/أبريل 2018 هي هجوم فيلمي (من فيلم)، افتراضي، مُعدٌّ مسبقاً، ورغم سوء الإعداد له، وزيفه وبطلانه، ولا معقوليته، إلا أن له مفاعيل الحدث الفعلي والواقعي، إذ إنَّ وظيفته تتفوق على حقيقته، وكما يقول غ. باشلار، لم يعد أصل الموضوع هامّاً، فالهام هو دوره وتفاعلاته، وكونه يمثل مُدخلاً لواقع ما أو فرصة للقيام بفعل ما. ولكن إلى متى سوف تتواصل ذريعة الكيماوي سلاحاً في الأزمة السورية؟
عند أي نقطة تحول في الأزمة السورية، يبرز دور واشنطن المُعطِّل والمخرِّب، يختلق الذرائع ولا يعبأ بتقديم الأدلة؛ ومجرد المطالبة بالدليل هو في منظورها عنفٌ ضدّها واستهدافٌ لمصالحها ومكانتها؛ بل هو إعلانُ حربٍ عليها. وقد سبق للولايات المتحدة أن تسببت بأزمة عندما هددت بالاعتداء على سورية، بذريعة مماثلة كاذبة، وهي استخدام السلاح الكيماوي في الغوطة بريف دمشق (آب/أغسطس 2013)؛ كما استهدفت مطار الشعيرات بذريعة مماثلة كاذبة أيضاً حول استخدام الكيماوي في خان شيخون بريف إدلب (نيسان/أبريل 2017). ولم تقدم واشنطن دليلَ إثباتٍ واحداً على اتهاماتها، وعطلت أي إمكانية لتحقيق مستقل في الحوادث المذكورة. وقد أظهر كاتب تحقيقات أمريكي شهير اسمه سيمور هيرش، تورط واشنطن وأنقرة، في حادثة استخدام الكيماوي في الغوطة بريف دمشق (آب/أغسطس 2013)، وظهرت تحقيقات أخرى عن فبركة صور ومقاطع وعينات الهجوم المزعوم على خان شيخون (نيسان/أبريل 2017).
ومنذ التدخل العسكري الروسي إلى جانب دمشق في مواجهتها للإرهاب (أيلول/سبتمبر 2015)، أظهر الغربُ عدائيةً متزايدةً لموسكو ودمشق، وأخذ يتحين الفرص لإجهاض مساعيهما في مكافحة الإرهاب واستعادة سلطة الدولة على الجغرافية السورية، ولم يستجب لمطالب روسيا بإقرار آلية تحقيق مهنية وشفافة وآمنة حيال المزاعم والاتهامات الموجهة للجيش السوري باستخدام السلاح الكيماوي في مواجهاته مع التنظيمات المسلحة.
إنَّ أكذوبة الكيماوي، وإعادة إنتاجها بصورة متكررة، هي سياسة ابتزاز دائم لدمشق، لجعلها وحلفاءها تحت تهديد دائم بالحرب، هذا يُذَكِّر بما كان يحدث طوال الإعداد الأمريكي والغربي لغزو العراق في العام 2003، موجاتٌ وطبقات من الفبركات والتضليل، وتلفيقٌ للأدلة والوثائق، واستخدامٌ للمنظمات الدولية والحلفاء من الأوربيين والعرب، الخليج على نحو خاص، كلّ ذلك أفضى إلى تدمير العراق واستباحة المنطقة، وها إن واشنطن تحاول استخدام السياسة نفسها ضد سورية.
تواصل واشنطن إطلاق اتهامات مُجنَّحَة ضد دمشق وحلفائها، من أجل تحقيق أهدافها في سورية والمنطقة، وهذه المرة ضد موسكو على نحو خاص. وقد حاولت أن تمرر قراراً في مجلس الأمن بشأن كيماوي "دوما" المزعوم، يخالف آليات التحقيق المقررة والمتفق عليها دولياً في اتفاقية حظر إنتاج الأسلحة الكيميائية وتخزينها واستعمالها، ورفضت مشروعَ قرار روسيّاً حول تشكيل آلية تحقيق مستقلة وحيادية يمكنها أن تذهب إلى موقع الهجوم المزعوم.
بالنسبة لواشنطن، الحقيقة ليست هامة هنا، وليس هاماً تصديقها أو إثبات زيفها، إنما الهام هو القدرة على إظهار الاتهامات والأكاذيب كما لو أنها حقيقة، أو التعاطي معها بوصفها كذلك. في عالم السياسة، وخاصة الحروب، وهذا منطق غربي وأمريكي وصهيوني بامتياز، لا يعود السبب/الذريعة الأصلية هاماً، طالما أن الحرب ولادة للذرائع والتبريرات. وطالما أن التهديد بالحرب يمكن أن يحقق المطلوب، أو بعضه، وهو أقل تكلفة بطبيعة الحال.
الإعلان عن الهجوم الكيماوي المزعوم في دوما أتى من قبل "الخوذ البيضاء" و"الجمعية الطبية الأمريكية"، وهذا دليل صريح على علاقة واشنطن بالتنظيمات المرتبطة بـ "القاعدة" و"جبهة النصرة"، إذ تمثل "الخوذ البيضاء" تنظيماً تستخدمه المخابرات الأمريكية (CIA) والبريطانية (MI6) كوحدة دعاية وتضليل، أنتجت صوراً ومقاطع فيلمية مفبركة، ظهرَ فسادُ وزيفُ الكثير منها، لكنَّ الغرب وحلفاءه يروجون لها بحماسة كبيرة، بوصفها "أداة حرب" من نوع مختلف.
جاء توقيت الهجوم الفيلمي في وقت كان الغرب يتحدث فيه عن هجوم وشيك بالأسلحة الكيماوية، وفي لحظة شارفت فيها عملية تحرير مدينة دوما على نهايتها، كما أن تعثر الاتفاق لمدّة وجيزة كان مُدبَّرَاً أو مُناسباً لإطلاق مزاعم افتراضية. علماً أن دمشق التزمت بالاتفاق، وقد أعطت الأولوية للمدنيين القادمين من الغوطة في الإيواء وتقديم الخدمات الصحية والإغاثية والتعليمية وغيرها.
ترى واشنطن أن الميديا والحرب الافتراضية هما نقطة الضعف الرئيسة لدمشق وحلفائها، وأن "حرب المعنى" لدى الغرب أخطر من القوة العسكرية، بما فيها النووية؛ وبالنسبة لسورية وحلفائها، صحيح أنهم حققوا تقدماً في هذا المجال، لكن لا تزال الاستجابة أقل من التحدي، ولا يزالون أقل مبادرة ومبادأة. وهذا من الأمور التي يجب إيلاؤها المزيد من الاهتمام.
لكن القصة لا تقف هنا، ذلك أن إكراهات الحدث، صحيح أنها تمثل تحدياً متزايداً لدمشق وحلفائها، وخاصة مع الفروق الكبيرة في الموارد والإمكانات، بينها وبين أعدائها، إلا أن التهويل بالحرب شيء، والدخول فيها شيء آخر، ذلك أن قرار الحرب ليس هيناً، ولا بد من أن تكون له حسابات عديدة، ليس بينها الدفاع عن مسلحين أو معارضين لدمشق. كما أن إرادة التسوية لا تزال –رغم كل شيء، وحتى لو حدثت عمليات محددة-أكبر من إرادة الحرب.
إضافة تعليق جديد