الإدارة المحليّة في سورية بين الواقع والآفـــــاق
تاريخ: الأربعاء, July 5, 2017

تعدّ الإدارة المحليّة تطبيقاً من تطبيقات اللامركزيّة الإدارية التي اتجهت دول عالمنا المعاصر لاعتمادها كمبدأ تنظيمي في دساتيرها. إذ أدركت الحكومات أن إدارة الخدمات هي من الاتساع بمكان، إلى حدّ لا يمكن معه أن تؤديها جهة مركزية واحدة. وانطلاقاً من ذلك قامت دول عدّة بإعادة هيكلة بناها الإدارية، وتمّ التركيز على البنى الإدارية المحليّة ومنحها سلطات أوسع.
ويمكن وصف هذا الاتجاهِ العالميّ نحو اللامركزيّة الإداريّة بأنه إجراءٌ تصحيحيٌّ للمركزية المفرطة التي رافقت مراحل بناء الدولة الحديثة. فقد أظهرت التجربة أن إدارة وتسيير الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والخدمية بالحد الأقصى بوساطة إدارة مركزية وطنية واحدة، بات أمراً وهمياً، ذلك إذا قُيّمت النتائج بمؤشرات الجودة العالية والسرعة في الإنجاز والاقتصاد في الكلفة (المثلث الذهبي للخدمة العامة).
وتجدر الإشارة هنا إلى أن السجال بين المركزيّة الإدارية واللامركزيّة الإدارية مستقل تماماً عن المفاضلة بين الدولة الموحدة البسيطة والدولة الفيدرالية (اللامركزيّة السياسية). وسيتم التركيز في هذا البحث على اللامركزيّة الإدارية والمركزيّة الإدارية في سورية، انطلاقاً من وحدة الدولة سياسياً. ويهدف البحث إلى دراسة التجربة السورية في الإدارة العامة اللامركزيّة، والتعلم من تجارب البلدان الأخرى في هذا المجال، سعياً لاقتراح الوسائل الكفيلة بإصلاح بنية الإدارة المحليّة في سورية، إذ تصبح أكثر كفايةً في أداء الخدمات العامة وأكثر استجابة للحاجات العامة، استناداً إلى مبدأ أساسٍ يقوم على التعاون بين السلطتين المحليّة والمركزيّة.
فالفهم الصحيح للإدارة المحليّة وتعزيزها في سورية يعزّز من شرعية الدولة، في حين أنَّ الدولة المركزيّة المفرطة التي لا سلطات محلية أو مناطقية مفعَّلة فيها، ستكون بعيدة عن الشعب وغير قادرة على الاستجابة لحاجاته وإدارة شؤونه بنجاح.
انطلاقاً من هذه النتيجة الجوهرية تمّ اختيار الموضوع الذي ستتم معالجته بطريقة تحليلية موضوعية نقدية تهدف إلى تسليط الضوء على نقاط الضعف في مجال الإدارة العامة المحليّة، سواء أكان ذلك لجهة التنظيم الإداريّ، أم لجهةِ الإطار القانونيّ، أم لجهة الصعوبات التي تعترض التطبيق العملي، ومن ثم تقديم المقترحات ذات الطبيعة العضوية والوظيفية التي قد تساعد في الوصول إلى واقع أفضل مما هو عليه الحال، لا سيما أننا نراهن على الخطوات الإصلاحية السياسية والقانونية والإدارية والاقتصادية التي بدأت سورية بخطوها. لذا فلا يمكن تجاهل دروس الماضي لئلا تؤدي الأخطاء الإدارية والمؤسساتية إلى تشوهات في النمو اللامتوازن، ومن ثم ضعف الثقة في الدولة، الأمر الذي يهدد بدوره استقرار جمهوريتنا. ولعلّ الإنجاز الطموح لهذا البحث يتطلب تقسيمه إلى قسمين: خُصِّص الأول للإطار النظري المفاهيمي، وتناول الثاني التطبيقي العملي بهدف أخذ الدروس والعبر والانتقال إلى واقع أكثر خيراً وإيجابية.
أولاً- الإطار المفاهيمي للإدارة المحليّة:
تُعَدُّ الإدارة المحليّة وفقاً لما سبق صورةً من صور اللامركزيّة الإدارية التي تقوم في جوهرها على عدم اتخاذ كل القرارات المتعلقة بالشأن العام من قبل البيروقراطيين في الحكومة المركزيّة (العاصمة)، وتقوم على توزيع السلطات والصلاحيات الإدارية على كل الوحدات الإدارية في البلاد، سواء أكانت مركزيّةً، أم لا مركزيّة.
وينبغي التشديد هنا على أن توزيع المهام الإداريّة يبقى محصوراً في هذه المهام، أي لا علاقة له بالأمور السيادية التي ينبغي أن تكون حصرية بيد الحكومة المركزيّة.
ويُؤمّلُ باعتماد هذا التعريف أن يُصار إلى الفهم الصحيح للإدارة اللامركزيّة المحليّة، وسيتم تحليله وفق الضوابط الآتية:
1- يختلف جوهر اللامركزيّة الإدارية المحليّة عن عدم التركيز الإداري (اللاحصرية الإدارية)، التي تقوم على مجرد التفويض ببعض الصلاحيات من الرئيس للمرؤوس، تحقيقاً للمرونة في العمل وتبسيطاً للإجراءات. بيد أن هذا وإن كان مطبّقاً في سورية[1]، إلاّ أنه لا يؤدي إلى لا مركزية حقيقية في الإدارة. إذ إن اللامركزيّة تدل حقاً على التنازل عن بعض الصلاحيات لمؤسسات محلية منتخبة تمارس اختصاصاتها بمسؤولية ذاتية، أي بناء على سلطتها الاستنسابية الذاتية، وبعيداً عن التدخل المباشر للسلطة المركزيّة، بوساطة أدوات التوجيه والتعديل والإلغاء وحتى الحلول.
كل ذلك انطلاقاً من حقيقة لا يمكن لأحد أن يتنكَّر لها ألا وهي أن النظام اللامركزي يأخذ بحسبانه أن السكان المحليين والمسؤولين المحليين هم الأخبر بشؤونهم، والأقدر على معالجتها واتخاذ القرارات الرشيدة بشأنها.
2- تأخذاللامركزيّة الإدارية صورتين هما جغرافية (محلية)، أو قطاعية (مرفقية). والصورة الأكثر شيوعاً تتمثل في تقسيم إقليم الجمهورية إلى أجسام إدارية مناطقية تأخذ تسميات مختلفة (كالكمونات في فرنسا وألمانيا وبلجيكا)، والبلديات في لبنان، والوحدات الإدارية المتمتعة بالشخصية الاعتبارية في سورية. وتمارس هذه الوحدات الإدارية نشاطها في نطاقها الإقليمي المحدّد مسبقاً بصك إحداثها. فعلى سبيل المثال نص قانون الإدارة المحليّة السوري رقم /107/ لعام 2011 في المادة السابعة على أنه: "تتكون الجمهورية العربية السورية من وحدات إدارية تتمتع بالشخصية الاعتبارية والاستقلال المالي والإداري وهي (المحافظة، المدينة، البلدة، البلدية)". كما نصت المادة /9/ من القانون نفسه على أنه: "تحدث المحافظات وتسمى وتعين مراكزها وحدودها وتعدّل بقانون".
وبذلك نستنتج أن لكل وحدة إدارية محلية نطاقاً جغرافيّاً محدّداً، تمارس المحليات فيه نشاطاتها ذاتياً، ويخضع هذا النطاق للحماية القانونية، بسبب منح الوحدات الإدارية المحليّة الحق في إدارة شؤونها ذاتياً، بوساطة صلاحيات يمنحها إياها الدستور في كثير من الأحيان[2].
3- مما لا شك فيه أن اللامركزيّة الإدارية باتت في يومنا هذا تأخذ أبعاداً سياسية إضافة إلى بعدها التنموي والإداري، لأن المركزيّة المفرطة تتعارض مع روح الديمقراطية وممارستها، وهي تمثّل نفياً لدور المواطن وتجاهلاً خطيراً لحقوقه السياسية. كما أن المركزيّة المفرطة تقلِّص من عملية المساءلة.
4- ويُرجّحُ -في المنظور المالي- أن يواجه النظام الشديد للمركزية (الذي يعتمد على الضرائب الوطنية الموحدة وعلى الإنفاق الموحد) صعوبات هائلة في تحصيل الإيرادات لعدة أسباب، أهمها: أن الإيرادات الضريبية ستذهب إلى الحكومة المركزيّة، في حين أن المواطن لا يملك أي رأي في سبل إنفاقها.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: أليس من الضروري الإيمان بمبدأ اللامركزيّة في إدارة الشأن العام؟وهل لعاقل أن يتجاهل فوائده المتعددة والمتشعبة؟ ومن أهمها: تقريب القرارات العامة من الناس، وتشجيع النمو المتوازن والمتكافئ. إذ إن اللامركزيّة تعطي الشعب دوراً هاماً في عملية صنع القرار، وتتطلب توافقاً وطنياً على خطط التنمية. كما تسمح اللامركزيّة باعتماد برنامج للتنمية الوطنية أكثر عقلانية، نظراً لاختلاف الحاجات والفرص باختلاف المناطق. فقد تكون هناك حاجة إلى المساكن وتحسين البنية التحتية في بعض المناطق، بينما تشتد الحاجة في مناطق أخرى إلى الاستثمارات المالية. فكما هو معروف فإن المال يُجذب إلى حيث السلطة، فكلما زادت لامركزية السلطة، ازداد انجذاب رأس المال والاستثمار إلى المناطق، وعلى العكس فإن تمركز السلطات الإدارية في المركز يَجذب اللاعبين الاقتصاديين الرئيسين من أفراد وشركات إلى التمركز في العاصمة، الأمر الذي يؤدي إلى النمو السريع للعاصمة وتدهور وضع المناطق. كما تشجع اللامركزيّة الإدارية والمقاربة المتنوعة للتنمية على التنافس بين المناطق لتأمين الاستثمارات وفرص العمل، لكي تجعل بيئاتها الاجتماعية والاقتصادية مؤاتية للنمو. هذا في الجانب الاقتصادي.
أما في الجانب الإداري، فلا شك في أنَّ اللامركزيّة الإداريّة تحل مشكلة الجمود الإداريّ، وتتفادى بطء صنع القرار، وعدم كفايته، إذ إن هذه السلبيات نتاج مباشر للعمل المركزيّ؛ لكن في المقابل يتوزع عبء صنع القرار في النظام اللامركزيّ، بصورة أسرع وأكثر مدعاة للارتياح على العديد من المؤسسات والمجموعات، بسبب اتخاذ القرارات كلها على المستوى الملائم وفي المكان المناسب.
إلى ذلك يستبين على مستوى البعد السياسي أنه لا يختلف اثنان على أنَّ الإدارة المحليّة تسهم في تكوين مواطنين ديمقراطيين قادرين وفاعلين، لأنها تعطيهم الخبرات المتعلقة بالشؤون العامة، وبوساطة هذه الخبرات التي يكتسبها هؤلاء المواطنون في السياسة المحليّة يمكنهم أن يتطوروا ويصبحوا مواطنين أكثر قدرة على المستوى الوطني. وبعبارة أخرى، تمثل الإدارات والمجالس المحليّة حقلاً لتمرين المشرعين والقادة الإداريين على المستوى المركزي. فأبواب المجالس المحليّة المفتوحة سوف تفسح المجال أمام النخب الشابة الصاعدة للدخول إلى معترك الحياة السياسية. وما يعزّز هذه النتيجة ويؤيدها هو أن الإدارة المحليّة تؤسس لنظام تمثيلي يتميز ببقائه على مسافة قريبة من الناخبين.
اجتماعياً تعزّز الإدارة المحليّة الانسجام والتوافق الاجتماعي، لأنها تتيح للسكان المحليين وممثليهم فرصة اكتساب الخبرة في حل الأزمات.
أمام كل تلك المزايا والحسنات التي تقدمها اللامركزيّة الإدارية نطرح الآن السؤال الآتي:
ما وضع اللامركزيّة الإدارية في النظام الإداري في سورية؟ والإجابة على هذا السؤال تحتاج بالتأكيد إلى دراسة الأساس الدستوري والقانوني للإدارة المحليّة في ضوء دستور عام 2012م وقانون الإدارة المحليّة رقم /107/ لعام 2011، كما تتطلب الإجابة بالضرورة القيام بعملية تحليل السياسيات المحليّة المتبعة في سورية في ضوء هذا القانون ومدى كفايتها للقول بوجود إدارة محلية حقيقية.
ثانياً-الإدارة المحليّة السورية في الوثائق القانونية:
1- في الدستور: تتجلّى نقطة الانطلاق هنا بالعودة إلى الأساس الدستوري والقانوني للإدارة المحليّة في سورية. إذ يؤكد دستور الجمهورية العربية السورية لعام 2012م وبمواضع مختلفة أن الجمهورية العربية السورية دولة ديمقراطية ذات سيادة[3]. كما نصَّ الدستور على أن تنظيم وحدات الإدارة المحليّة، إنما يرتكز على تطبيق مبدأ لا مركزية السلطات والمسؤوليات[4]. وبقراءة متأنية لهذا النص نستنتج أن الدستور الجديد قدّم ضمانة دستورية لنظام الإدارة المحليّة، إذ أقرّ مبدأ اللامركزيّة الإدارية المحليّة صراحة. ويمكن استنتاج الخصائص الجوهرية لضمانة نظام الإدارة المحليّة وفق دستور 2012م وفق الآتي
- إنها ضمانة مؤسساتية: والمقصود بذلك الاعتراف بوجود كيانات إدارية مناطقية (وحدات إدارية) لها الحق في إدارة شؤونها ذاتياً، مع الاعتراف للمشرّع بحق تنظيم هذه الوحدات من حيث إحداثها أو إلغاؤها أو دمجها في نطاق عملية إصلاح إداري أو إقليمي تفرضه التوجهات الاستراتيجية الجديدة (نقص الموارد – النظام العالمي الجديد –الحوكمة– الشراكة بين القطاع العام والخاص لإدارة وتسيير المرافق العامة....الخ).
- تعني الضمانة المؤسساتية من جملة ما تعنيه أن يطبق على حق المحليات في إدارة شؤونها مبدأ شمول وعمومية نطاق التأثير المحلي.
- تعني الضمانة المؤسساتية أيضاً المسؤولية الذاتية لوحدات الإدارة المحليّة في تنفيذ اختصاصاتها، أي أن تقوم وحدات الإدارة المحليّة بممارسة اختصاصاتها وفق سلطتها التقديرية، وعلى مسؤوليتها وحريتها في اتخاذ القرار بدون إيحاءات وتدخل من السلطة المركزيّة.
- توصف المسؤولية الذاتية لوحدات الإدارة المحليّة وفق ما قصده المشرّع الدستوري بمجموعة من الصلاحيات أهمها:
- الصلاحية الإقليمية: أي حق وحدات الإدارة المحليّة بممارسة سلطتها على إقليمها المحدّد إدارياً.
- الصلاحية المالية: أي تزويد المحليات بالوسائل المادية الكافية، على أن تكون وسائل التمويل متعددة الجوانب.
- الصلاحية التخطيطية: وهي سلطة الوحدة الإدارية المحليّة في وضع مخططاتها التنظيمية وتنفيذ أحكام قانون البناء والتشاركية والتخطيط الإقليمي.
- الصلاحية اللائحية: والمقصود بها صلاحية وحدات الإدارة المحليّة في التقرير بخصوص كافة الشؤون المحليّة. هذا في ما يخص الأساس الدستوري للإدارة المحليّة في سورية.
2- في القانون /107/ لعام 2011م: السؤال هنا هو كيف انعكس ذلك على التنظيم القانوني للإدارة المحليّة في قانون الإدارة المحليّة رقم /107/ لعام 2011م. ذلك إلى أنَّ أهم ما ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق هي أهداف القانون /107/ لعام 2011م، إذ أكّد المشرع على تطبيق مبدأ لا مركزية السلطات والمسؤوليات وتركيزها في أيدي طبقات الشعب تطبيقاً لمبدأ الديمقراطية الذي يجعل الشعب مصدر كل سلطة. كما أكّد المشرّع في أهداف القانون على إيجاد وحدات إدارية قادرة على التخطيط والتنفيذ ووضع الخطط التنموية الخاصة بالمجتمع المحلي. ومن أهداف القانون أيضاً تقرير الإيرادات المالية للوحدات الإدارية لتمكينها من ممارسة الدور التنموي في المجتمع المحلي إلى جانب الدور الخدمي، وجعل هذا المجتمع مسؤولاً عن الحفاظ على موارده، وتنمية هذه الموارد لتحسين المستوى المعيشي للمواطنين. وامتدت أهداف القانون لتشمل هدفاً آخر يتمثل في النهوض بالمجتمع المحلي بتكريس التعاون المشترك بين شتى الوحدات المحليّة، وإحداثِ اتحادات بلدية (إدارات مشتركة) تستطيع أن تقوم بتنفيذ مشاريع كبرى بشكل فعال. ولم يتجاهل المشّرع هدفاً أساساً في دنيا إدارة الخدمات العامة وتسييرها يتجلّى في تبسيط الإجراءات عن طريق إنشاء مراكز خدمة المواطن.
وبنظرة تحليلية لأهداف القانون نجد أنها أهدافٌ طموحة، لا سيما وأن المشرّع السوري قد أحاط المدلولين الرئيْسَين للإدارة المحليّة (المدلول السياسي والمدلول الإداري والتنموي) بعناية خاصة، إذ جاءت الأهداف واضحة وبعيدة عن المصطلحات السياسية الفضفاضة التي لا يقصد منها سوى الشعارات، كما كان عليه الحال في ظل تشريع 1971م.
إذن لا جدال حول جودة البنية الدستورية والقانونية للإدارة المحليّة في الوثائق القانونية (الدستور والقانون) كما لا خلاف على جودة التنظيم الإداري لمؤسسات الإدارة المحليّة (أيضاً على الورق). فكيف هو واقع الإدارة المحليّة على الأرض؟
ثالثاً- واقع الإدارة المحليّة في سورية في التطبيق
بعد دراسة الإطار الدستوري والقانوني للإدارة المحليّة في سورية تبيّن لنا وبرؤيتنا العلمية الموضوعية أن الأساس القانوني لا بأس فيه ويشكل قاعدة جيدة لمباشرة الأعمال التنفيذية. إذن أين المشكلة؟ وماهي المعوقات والصعوبات التي تعاني منها الإدارة المحليّة في سورية على صعيد التطبيق العملي؟ تستحق هذه الأسئلة الطرح، لأن الطموحات والأهداف التي أوردها المشرع في متن القانون بقيت أكبر من الواقع العملي والمؤشرات الآتية تدل على ذلك:
1- لم تتحقق التنمية المتوازنة بالشكل الذي يطمح إليه المواطن خارج نطاق العاصمة.
2- لم تتحقق اللامركزيّة على النحو الفنِّي المطلوب، بدليل أن المحليات صارت صناديق بريد لإرسال الملفات إلى السلطة المركزيّة للاطلاع والتصديق، إضافة إلى بطء الخدمة العامة.
3- لم تمارس المجالس المحليّة دورها، فهل يكتفى أن تبقى مجالس شكلية أم يفترض أن تمارس اختصاصاتها بفعل قرارات نهائية ملزمة؟ وهذا غيض من فيض. ومعنى ذلك أن نعترف بمجموعة من المعوقات التي تعاني منها الإدارة المحليّة.
ويمكن تصنيف هذه الصعوبات إلى ثلاث مجموعات، على النحو الآتي:
المجموعة الأولى: صعوبات متعلقة بالموارد البشرية المحليّة
لقد أثبتت التجربة أن الكوادر التي تدخل معركة الانتخابات المحليّة لتشكيل المجالس المحليّة تعاني من صعوبة الفهم الصحيح للعمل في الشأن العام المحلي، إن كان لجهة عدم الإلمام بأساسيات وبديهيات العمل التمثيلي، أو لجهة عدم الرغبة في المبادرة. وإذا أردنا تعرف أهم الأسباب في ذلك لاستنتجنا أنّ هذا الضعف يرجع إلى غياب المبادرة، ثقافيّاً وسياسيّاً، لدى بعض أعضاء المجالس المحليّة.
أما الجناح الآخر في الجسم المحلي فيتجلى بالإدارة التنفيذية (المكتب التنفيذي) التي تعاني هي بدورها من ضعف في الكفاءة. فكيف يُعقل أن تكون على مستوى إدارة بلدية قلة قليلة من الموظفين البيروقراطيين (فئة أولى وفئة ثانية) من دون أن يكونوا قد أُعدّوا مسبقاً في معاهد متخصصة لهذا الغرض، وأن يكون إعدادُهم متركزاً حول العمل في الشأن العام المحلي. فلا بأس في تقديم حقيبة تدريبية دورية بمحاور متعددة في القضايا الإدارية المحليّة كتبسيط الإجراءات، وفن التواصل مع الجمهور، ودورات متعددة في القضايا القانونية (نظام العقود للجهات العامة، النظام "الأساسي" للعاملين في الدولة...، قانون الإدارة المحليّة...، الأنظمة الداخلية وغيرها).
المجموعة الثانية: صعوبات متعلقة بالتمويل
لا يكاد يختلف اثنان على أن القرار المحلي لا يمكن تنفيذه، إلاّ برصد الاعتماد الكافي. فالموارد المحددة في قانون الإدارة المحليّة ليست كافية لتغطية الإنفاق العام المحلي، إذ تعتمد غالبية المحليات (لاسيما البلديات والبلدات) على المخصصات التي تأتيها من الحكومة المركزيّة التي ترافقها عادة مصفوفة من التعليمات في ما يخص أوجه الإنفاق. هذا الاختناق المالي الذي تعاني منه المحليات يحتاج بالضرورة إلى فتح المجال واسعاً أمام المحليات لتشق طريقها بذاتها من أجل خلق الفرص الاستثمارية، ومن ثم خلق الموارد الذاتية اللازمة لتغطية الإنفاق العام، لتلبية الاحتياجات العامة للسكان المحليين.
المجموعة الثالثة: علاقة الحكومة المركزيّة بالسلطات المحليّة
إن هذه النقطة بالذات تمثل جوهر المشكلة، فصحيح أن الرقابة المركزيّة على أعمال السلطات المحليّة وأجهزتها تشكل الوجه الثاني لمبدأ اللامركزيّة الإدارية، لكن الصحيح أيضاً أن هذه الرقابة يفترض ألا تصل إلى حد مصادرة حق المحليات في إدارة شؤونها ذاتياً. إن الرقابة المركزيّة وجدت لحماية مبدأ المشروعية. بعبارة أخرى: يجب أن يقتصر تدخل السلطة المركزيّة في القرارات المحليّة على تفحص نواحي المشروعية، من دون أن تتدخل في نواحي الملاءمة. بيد أن واقع العلاقة بين السلطة المركزيّة والسلطات المحليّة يقول غير ذلك. إذ إنَّ إلقاءَ نظرة سريعة على القواعد القانونية الواردة في قانون الإدارة المحليّة رقم /107/ لعام 2011م يثبتُ وبشكل لا يدع مجالاً للشك أن السلطة المركزيّة في رقابتها للأعمال القانونية المحليّة تتجاوز وفي كثير من الحالات عتبة المشروعية.
وهنا نتساءل: لماذا لا يُمنح للإدارات المحليّة وبموجب القانون الحقُّ في مخاصمة قرارات السلطة المركزيّة أمام القضاء الإداري؟ وقد يقول قائل: إن هذا المقترح سيتسبب بمشكلات إضافية، وسيتسبب بتوريد سيل كبير من الدعاوى أمام القضاء الإداري ومن ثم إنهاكه؟ فالرد ببساطة يكون بإحداث غرفة خاصة في مجلس الدولة لهذه القضايا أو غرف في المحاكم الإدارية على مستوى المحافظات.
يُستنتج بعد القراءة المتأنية لهذه الصعوبات أن واقع الإدارة المحليّة ومبدأ اللامركزيّة الإدارية في سورية لا يدعوان للتفاؤل. لأن المرتكزات الأساسية للإدارة المحليّة مفقودة وأهمها:
- مجالس محلية تحقق الكفاية.
- تمويل كافٍ.
- محدودية حجم الصلاحيات المحليّة.
- رقابة السلطة المركزيّة شاملة.
هذا كله يدفع باتجاه رفع شعار الإصلاح وكتابة برنامجه التنفيذي.
رابعاً: نحو رؤية جديدة لإصلاح الإدارة المحليّة في سورية
بعد أن بينَا أن واقع الإدارة المحليّة أقل من الطموح، نتساءل الآن مع أصحاب القرار عن شكل المصفوفة الإصلاحية التي من شأنها أن تخلق نهضة كبيرة في دنيا هذا القطاع من قطاعات الإدارة العامة (قطاع الإدارة المحليّة). وبالمناسبة إن المصفوفة التي نتحدث عنها لا ينتظر أن تكون كلاماً معسولاً أو طموحاً غير قابل للتطبيق، بل ينبغي أن تتصف بالموضوعية وأن تتماهى مع معطيات جمهوريتنا، سواء أكان ذلك من الناحية السياسية، أم الاجتماعية، أم الاقتصادية، مع ملاحظة أن هذه المعطيات ليست ثابتة بل متغيرة، وقد تتغير نحو الأفضل لذا من حقنا أن نرفع سقف الطموح والرؤيا.
ولكن من أين يبدأ الإصلاح؟ هل يبدأ الإصلاح من السلطة المركزيّة أم من المجالس المحليّة؟
وبهذا الخصوص نقدم الرؤية الآتية:
1- لا يمكن معالجة عدم كفاية أعضاء المجالس المحليّة وتدني مستوياتها العلمية عن طريق تعيين عدد من الأعضاء عن طريق الحكومة المركزيّة، لأن هذا الأسلوب إضافة إلى أنه سينسف فكرة الإدارة المحليّة، تعتريه أيضاً بعض العيوب التقنية، لا سيما أن التعيين في معظم الدول العربيَّة والنامية عموماً سيكون مربوطاً بالمحسوبيات. والحل برأينا يكون في إعطاء الموظفين في القطاع العام حق الترشُّح لانتخابات الإدارة المحليّة، وإجراء دورات تدريبية تثقيفية توعوية في مجال الإدارة المحليّة تتولاها وتشرف عليها معاهد متخصصة في هذا المجال، ولا بأس أبداً في إحداث معهد متخصص في الإدارة المحليّة وتنمية المحليات على غرار تجربة مصر في هذا المجال.
2- لا يمكن أن تعتمد المحليات (كما هو واقع حالها) على المساعدات المالية التي تأتيها من السلطة المركزيّة، لأن هذا يمسّ باستقلالها المالي، فأي معنى لحق المحليات في إدارة شؤونها المحليّة في ظل عجوزات مالية تعاني منها؟ مع التأكيد على أن الحق في الإدارة الذاتية هو ركن أساس في اللامركزيّة الإدارية. لذا نقترح أن يصار إلى تفعيل قانون التشاركية بين العام والخاص لإدارة المرافق العامة رقم /5/ لعام 2016م، بغية إنشاء شركات اقتصاد مختلط تتولى إنشاء وإدارة بعض المرافق العامة.
3- يجب امتلاك الشجاعة في إعداد دراسة موسعة تتضمن مشروعاً جديداً لقانون الإدارة المحليّة، يخلو من التعابير السياسية والشعاراتية التي لا مضمون لها، واعتماد مبدأ الثبات التشريعي، على أن يقتصر النص على المبادئ الأساسية والأحكام العامة، وأن تترك التفاصيل والجزئيات للائحة التنفيذية.
4- ونقترح أن يتضمن مشروع القانون المؤسسات الحقوقية الآتية:
- معايير تكوين وحدات الإدارة المحليّة (الاقتصادي-البشري – المالي).
- المركز القانوني لوحدات الإدارة المحليّة.
- الصلاحيات الأصلية لوحدات الإدارة المحليّة.
- إعادة النظر في شروط الترشُّحْ لعضوية مجالس الإدارة المحليّة.
- إعادة تنظيم العلاقة بين السلطة المركزيّة والسلطات المحليّة وحصر هدفها ومداها بنواحي المشروعية منها.
- تضمين نص القانون فقرة تجيز لوحدات الإدارة المحليّة مقاضاة قرارات سلطة الرقابة أمام القضاء الإداري وإحداث غرفة متخصصة في هذا الشأن في مجلس الدولة-أو المحاكم الإدارية في المحافظات.
[1] انظر أحكام المرسوم التشريعي رقم /69/ لعام 2005م المتضمن قانون التفويض في سورية.
وقد بدأت اللاحصرية في إدارة الدولة الحديثة في أوربا عندما تبناها نابليون لكي يعيد تنظيم فرنسا إلى مقاطعات يتولاها مسؤولون في الحكومة المركزية يتمتعون بسلطات واسعة تمكنهم من الحفاظ على ولاء هذه المقاطعات للدولة الفرنسية الموحدة.
[2] مثال: انظر نص المادة /131/ فقرة /1/ من دستور الجمهورية العربية السورية لعام 2012 التي يمكن قراءتها كأساس دستوري لنظام الإدارة المحلية في سورية.
[3]- المادة (1) من دستور عام 2012م.
[4]- المادة (131) فقرة /1/ من دستور عام 2012م.
التعليقات
Tc pitting migraine, weakness, shocks abdominis tranquillizers.
The mirrors sulci instruction multifactorial.
Coronary variable; suggestions anger, ear.
دراسة قيمة... أتمن ان يتم
إضافة تعليق جديد