الثابت والمتحول: قراءة في "اتفاق موسكو" بين روسيا وتركيا حول إدلب
تاريخ: الاثنين, March 9, 2020

مقدمة
لا قائدَ كالخوفِ، ولا معلمَ كالحربِ، وقد ذهب أردوغان إلى لقاء بوتين مدفوعاً بالاثنين معاً، الخوف من انزلاق الأمور إلى حرب مفتوحة مع موسكو، وهذا أمر لا يريده ولا طاقة له به، وخاصة مع تردّد واشنطن والناتو في دعمه بإزاء موسكو؛ و"دروس الحرب" الراهنة جداً، وخاصة في إدلب وريف حلب، وبالأخص في سراقب.
تكاد الحرب في إدلب تكثّف الحدّث السوري برمّته، وقد أظهرت المعارك الأخيرة أنَّ رهانات الحدث السوري لم تتغير، بل ازدادت وضوحاً. وظنّ بعضُ المتابعين، إلى حين، أنَّ الحرب بصدد العَود على بدء، وخاصة أنَّ اندفاعة الجماعات المسلحة وانخراط تركيا الفاضح والعاري فيها بصورة صريحة ومكشوفة، لم يكن لإثبات الوجود والمحافظة على نطاق سيطرة معين فحسب، إنما لإظهار الرغبة والاستعداد للعمل –إن أمكنت الفرصة– بإعادة الزمن إلى الوراء أيضاً، وقد كان هدف تركيا والجماعات المسلحة الموالية لها، هو الاستيلاء على حلب أيضاً.
أولاً- لقاء موسكو
لا تكمن قيمة أو دلالة لقاء الرئيسين الروسي والتركي في موسكو (5 آذار/مارس 2020) بما صدر عنه فحسب، على أهميته، وإنما بما "سَكَتَ عنه" أو "أحال إليه" أيضاً، الأهم من كل ذلك هو أنه دَشَّنَ موجة من التقديرات والتأويلات الكثيرة والسيالة حول أفق معركة إدلب، وأفق الموقف بين موسكو وأنقرة حول سورية، وأفق الحدث السوري ككل.
تحدث نص الاتفاق الذي توصّل إليه الرئيسان، وأعلنه وزيرا خارجيتهما، عن وقف العمليات القتالية عند "خطوط التماس" بوضعها الراهن، وإنشاء شريط أمان بمسافة 6 كم على جانبي طريق اللاذقية-حلب المعروف باسم "إم4"، وتسيير دوريات مشتركة عليه، أما باقي البنود فهو مما تتكرر الإشارة إليه في كل الخطب والبيانات والوثائق التي تصدر عن مثل هذه الاجتماعات: سيادة سورية، مكافحة الإرهاب، الحل السياسي، اللاجئين، إلخ.
سكت الاتفاق عن وجود القوات التركية وانتشارها في "قوام مشترك" مع الجماعات المسلحة، وسوف تعد أنقرة ذلك "شرعنة" لوجودها ولأي عمل عسكري يمكن أن تقوم به ضد الجيش السوري. وقد أعلن أردوغان في تصريحات لاحقة: أنَّ الاتفاق "يمهد الطريق لتحقيق الاستقرار والوضع الطبيعي في منطقة إدلب"، كما يضمن "أمن" الجنود الأتراك هناك.
ما يقوله أردوغان، هو بالضبط ما لا يمكن للسوريين والحلفاء قبوله، بل هو مصدر التهديد الرئيس من منظورهم، ذلك أن "الوضع الطبيعي في منطقة إدلب" حسب أدروغان، هو "وضع غير طبيعي" أو هو "وضع شاذ" هناك؛ كما أنَّ الجيش السوري، مدفوع بواجب استعادة الأرض، ومحاربة الإرهاب، وإخراج تركيا من سورية. مثلما أنَّ تركيا وحلفاءها مدفوعون برهانات تمكّن لهم من البقاء هناك، والمحافظة على مشروع الكيانية الجهادية والقاعدية والتركية هناك. هذا يعني أنَّ وقف إطلاق النار لن يصمد طويلاً.
ثانياً- ثوابت متعاكسة
الثابت الرئيس في كل ما يجري هو أن إدلب سوريّة، وسورية تحارب الإرهاب على أرضها، وأن الجيش التركي هو جزء من "قوام" العمل الجهادي الإرهابي، والعكس؛ وأنَّ الاتفاقات بين الرئيسين بوتين وأردوغان في سوتشي (أيلول/سبتمبر 2018)[1]، و(تشرين الأول/أكتوبر 2019)[2]، أو موسكو (آذار/مارس 2020)[3]، أو غيرهما، ليست نهائية، وهي مشروطة –من منظور موسكو ودمشق– بغايات أسمى تتمثل –كما تتكرر الإشارة– باستعادة الجغرافيا، ومحاربة الإرهاب، وإخراج القوات غير الشرعية، وعودة الأمن والاستقرار إلى سورية.
والثابت من منظور تركيا، هو المحافظة على وجود عسكري مباشر وصريح في منطقة إدلب، يتجاوز "نقاط المراقبة" إلى انتشار واسع، والمحافظة على مشروع الكيانية التركية والقاعدية في إدلب، ما أمكن منها.
والثابت أيضاً هو حرص أردوغان على علاقاته بالرئيس بوتين، فقد قال في المؤتمر الصحافيّ الذي أعقب الإعلان عن الاتفاق: «لن تسمح لاستفزازات النظام السوري أن تؤثر في علاقاتها مع موسكو أو أن تلحق الضرر بها»، مشدداً على أن أنقرة كانت نسّقت مع موسكو موضوع "زج قوات إضافية إلى سورية".
ثالثاً- نصوص تأويلية
يُفرِطُ الترك في تأويل ما يتم التفاهم عليه، وفي اللعب على المعنى، ومن ذلك مثلاً أن بروتوكول أضنة لعام 1998، ونصوص اتفاقات سوتشي وموسكو حول إدلب، التي تصبح –من هذا المنظور– اتفاقات جديرة بالاحترام والالتزام، إذا كانت مفيدة لتبرير التدخل العسكري ومصالح تركيا في سورية، ولهم –من منظورهم– أن يعيدوا إنتاج معنى تلك التفاهمات والاتفاقات وفق ما يروه صالحاً أو مناسباً.
وهكذا، يبدو كل برتوكول أو اتفاق، كما لو أنه "عقد هوبزي" (نسبة لـ توماس هوبز) من منظور تركيا، هي الوحيدة التي تملكه وتفسِّره وتؤوِّله، تحاول تنفيذه أو تصرف النظر عنه، تستدعيه عند اللزوم، وتتجاهله أو تتنكر له عندما لا يكون مناسباً. وقد فعلت ذلك بثبات وإصرار حيال اتفاقات خفض التصعيد (أيلول/سبتمبر 2018)، ثم اتفاق سوتشي (تشرين الأول/أكتوبر 2019)، وسوف تحاول أن تفعل الشيء ذاته حيال الاتفاق الأخير.
رابعاً- "نقطة ارتكاز"
قال الرئيس بوتين قبيل اجتماع موسكو (5-3-2020)، إنَّ بلاده "لا تتفق مع كل آراء تركيا حول الوضع في سوريا، لكنها تنطلق من أن الطرفين نجحا في كل اللحظات الحاسمة، ونظراً للعلاقات الوثيقة بينهما في التوصل إلى اتفاقات وتجاوز الخلافات"، وأضاف أنه بات من الضروري مناقشة الوضع في إدلب، والعمل على عدم تكراره، "ولكي لا يلحق ضرراً بالعلاقات الروسية-التركية التي نثمنها عالياً"[4].
هذا يعني أن لدى موسكو وأنقرة ما يمكن البناء عليه، باعتبار خبرة السنوات الماضية، وباعتبار المصالح المشتركة، والرغبة في احتواء أي انزلاق محتمل لمواجهة مباشرة بينهما[5]. وهذا لا ينفي وجود رهانات متعاكسة في الحدث السوري وفي غيره، لدرجة تضع الطرفين على طرفي نقيض، إنما تحت ضوابط أو كوابح قوية ومعقدة. وهما ليسا سواء.
خامساً- لقاء غير متوازن
ثمة اختلال كبير في ميزان المعنى والقوة بين موسكو وأنقرة، وتراجع أو ضعف في "الحركة البندولية" لـ أدروغان بين موسكو وواشنطن[6]، التي أصبحت أقل مرونة وعائدية، ولذلك انتقل أردوغان إلى حرب مكشوفة وعارية، في مواجهة موسكو تحت عنوان مواجهة الرئيس الأسد، وقد كان جانب من تدخله في الحرب هو مواجهة الأسد تحت عنوان مواجهة موسكو. وأمل أردوغان أن يكون قادراً على استثارة واشنطن والناتو لدعمه ضد موسكو خلال المواجهات الأخيرة في إدلب.
سادساً- الرغبة، الإكراه
لكن اللقاء مدفوع بالرغبة أيضاً وليس فقط الإكراه، وهو محطة أو فسحة كي ينظر كلّ واحد من الطرفين إلى الآخر، ليس بما هو خصم فحسب، وإنما بما هو شريك في تفاهمات وظيفية تقوم مقام الضرورة أيضاً، أي النظر إلى الآخر فرصة وليس فقط تهديداً.
لا يستطيع أي منهما أن يبتعد كثيراً عن الآخر، ولا أن يقترب منه كثيراً، فالحدّان الأقصيان مرفوضان أو هما غير ممكنين، وهكذا فإن القتل والموت ممكنان، بمعنى أن تستهدف أنقرة القوات الروسية في سورية، مستخدمة الجماعات المسلحة في سورية، أو أن تقوم القوات الروسية باستهداف القوات التركية بصورة مباشرة أو غير مباشرة؛ لكنَّ القطيعة بين روسيا وتركيا غير ممكنة أو هي مرفوضة، كما أن روسيا تبذل جهوداً كبيرة من أجل أن تُقارِبَ بين سورية وتركيا، صحيح أن أردوغان مرفوض لدى دمشق؛ لكن تركيا دولة جارة، والترك أشقاء، حسب الرئيس بشار الأسد[7].
سابعاً- اتفاق إجرائيّ نصيّ
يمثل اتفاق بوتين-أردوغان حول إدلب محطة في سياق التنسيق-المواجهة بين موسكو وأنقرة في الحدث السوري، وهو لا يوقف حرباً ولا يدشن أخرى. والاتفاق حدث إجرائي ونصي أكثر من كونه حدثاً عَقَديّاً أو اتفاقيّاً، ويمكن أن يمثل "تخريجة" تساعد كلاً منهما في احتواء الانزلاق إلى مواجهة مباشرة، لا يريدها أي منهما، لكنه مضطر –بين وقت وآخر– للوقف على حافتها، وحتى الاستعداد للمضي فيها، إذا لزم الأمر، ولو أنهما ليسا سواء. وقد أظهرت موسكو إقداماً كبيراً في المواجهة الأخيرة حول سراقب، وفي المشهد شمال غرب سورية، الأمر الذي دفع أنقرة مكرهة للتراجع.
ثامناً- حركية الحدث
راهن أردوغان على أن الزمن لن يتأخر بـ الرئيس بوتين ليصل إلى مرحلة الملل أو السأم من الحرب في سورية، وقد كان ذلك ممكناً لو أن الحدث السوري، وخاصة "الوضع الشاذ" في إدلب، بقي مراوحاً في الزمان والمكان بلا تغيير، وهذا ما دفع الرئيس الأسد –بتأييد حاسم من الرئيس بوتين– لتغيير النمط، باعتبار الميدان.
واعتقد أردوغان أنَّ أوراق المساومة لديه لا تزال قوية وفعالة، ومن ثم فقد تجاوز ما كان بينه وبين بوتين في سوتشي (تشرين الأول/أكتوبر 2019)، إلى محاولة فرض أمر واقع جديد، مستغلاً: الإجهاد السوري، والإجهاد أو الانشغال الإيراني، والقبول الإسرائيلي، والدعم وربما التحريض الغربي، وفقدان الوزن والمعنى لدى العرب، إلخ.
لكنَّ سورية وحلفاءها وضعوا حدوداً للمغامرة التركية منذ البداية، وقد دحر الجيشُ السوري والطيران الروسي والقوات الإيرانية وقوات حزب الله الجيشَ التركي والجماعات المسلحة الموالية له عن سراقب، في معارك ملحمية وغير مسبوقة.
وأنزل بوتين أردوغانَ من على الشجرة أو أخرجه من عنق الزجاجة، لكنه ترك له حيزاً للتحرك والمناورة، وحتى الاندفاع والرد العسكري، وقد دفع الأخير بالمزيد من القوات إلى منطقة إدلب، واستهدف مواقع الجيش السوري على نطاق واسع متسبباً بخسائر كبيرة، واستخدم أسلحة جديدة مثل الطائرات المسيرة، وزود الجماعات المسلحة بالمزيد من السلاح، وأشرفَ بصورة مباشرة على عملياتها.
خاتمة
يبدو اتفاق موسكو بين بوتين وأردوغان حول إدلب "محاولة نصية" للتعاطي مع واقع جديد فرضه تقدُّم الجيش السوري وحلفائه واستعادته المزيد من المناطق التي كانت تحت سيطرة الجماعات المسلحة الموالية لتركيا، لكنه "سكت" عن طبيعة الوجود العسكري التركي في منطقة إدلب، وترك الباب مفتوحاً أمام تأويلات تبدو مناسبة بصورة مؤقتة أو طارئة لتركيا، سمحت لـ أردوغان بالاعتقاد أن وجود قواته هناك اتخذ طابعاً رسمياً، وأنَّ مشروع الكيانية التركية أو القاعدية أصبح محمياً أيضاً.
لكن نظرة أكثر تدقيقاً في المواقف المعهودة للسياسة الروسية، ومساراتها المتوازية، تضع الاتفاق في سياق يحافظ على ثوابت أساسية تكاد لا تقبل التأويل، وتتمثل بالحفاظ على وحدة سورية وسلامة أراضيها، ومحاربة الإرهاب، وخروج القوات غير الشرعية منها.
لا يزال الحدث السوري يحتفظ بقوته وراهنيته وقدرته على التفجير والموت، وهو حدثٌ لُجِّيٌّ، ولا يقيني، وارتكاسي، وسيّال، إلا أن إرادة الحرب، وإرادة القتال، تضع كل ذلك في أفق واحد هو العمل على محاربة الإرهاب، كما تتكرر الإشارة، وتحرير الأرض، واستعادة الجغرافيا، وعودة إدلب إلى "حضن الوطن".
[1] موسى عاصي، "الميادين تنشر نص البنود العشرة لاتفاق بوتين وأردوغان"، الميادين، 21 أيلول/سبتمبر 2018، http://bit.ly/2IC3oO9
[2] عبد الجبار أبو راس، "نص الإعلان التركي الروسي المشترك عقب قمة أردوغان – بوتين"، وكالة الأناضول للأنباء، 22 تشرين الأول/أكتوبر 2019. http://bit.ly/2VWgSMB
[3] "اتفاق روسي تركي "ينتظر التطبيق""، الشرق الأوسط، 6 ذار/مارس 2020، http://bit.ly/3cL1j0f
[4] المرجع السابق.
[5] انظر مثلاً: سامي كليب، "بوتين بين سورية وروسيا... التوازن الصعب"، موقع 5 نجوم، 3 ذار/مارس 2020، http://bit.ly/2PYvRC4
[6] عقيل سعيد محفوض، "أردوغان إزاء سوتشي، بين المشاركة والتفلّت"، الميادين، 31 كانون الأول/ديسمبر 2017، http://bit.ly/2TA9sNC
[7] حديث الرئيس بشار الأسد إلى قناة روسيا 24، وكالة سانا، 5 آذار/مارس 2020، https://sana.sy/?p=1054496
التعليقات
أردوغان من سلالة سفاحة لا
هل سمعتم يوما" ما بمثل شعبي
لا تعطوه الأمان فإنه الشيطان
لا تعطوه الأمان فإنه الشيطان
إضافة تعليق جديد