عن الشعوب الغربية وحكوماتها: استبداد ديمقراطي؟ / للدكتورة إنصاف حمد
تاريخ: السبت, December 17, 2016

-1-
يحتاجُ المرءُ إلى إعادة ضبط معارفه ومداركه المعتادة والقياسية، عن الباراديغم الأوروبي للنظم الديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان وغيرها، مما يشكل النواة الصلبة لما يسمى بالعالم الحرّ، لكي يكون بمقدوره سماع عبارات مثل:
- "الحكومات الأوروبية في ظلِّ الاتحاد الأوروبي حرّمت الشعوب الأوروبية من التعبير عن إرادتها"؛
- "أصبحت ديكتاتوريات شوّهت الديمقراطية"؛
- "أوروبا سجينة منظومة أحادية تحرم الشعوب من التعبير"؛
- "سيادة الدول الأوروبية مخترقة من قبل الاتحاد الأوروبي"؛
- "بسبب الاتحاد الأوروبي ليس هناك سيادة في السياسية الفرنسية بل تبعية وانحياز إلى الولايات المتحدة الأمريكية"؛
-" هناك شرخ بين الشعب الفرنسي وسياسييه"؛
-" السياسات الفرنسية تحتقر الشعب الفرنسي وتتبنى سياسات خاطئة"؛
- " السياسة الفرنسية تجاه العالم وسورية خاصة ليست السياسة التي يرغب بها غالبية الشعب الفرنسي"[1].
لا بدَّ من الاعتراف، أولاً، بأن هذه العبارات تنطق بما تشعر به فئة من الفرنسيين، وبالتأكيد بعض الأوروبيين، الّذين يجهدون لإعادة إنتاج الصورة الزاهية "المؤسطرة"[2] لبلادهم، تلك الصورة التي طالما حاولت تصديرها عن نفسها، بوصفها منبعاً للحريات وحقوق الانسان وحاميةً لها، ومثلاً أعلى للديمقراطية وطرق ممارستها وناشرةً لها، "ونموذجاً للتقدم الحضاري"[3]، ومصدراً للعقلانية والحداثة.
بمقدور المرء، ثانياً، أن يفهم ألم هؤلاء من الدَّرَكِ الذي وصلت إليه سياسات بلدانهم، والذي يتعارض، لا بل يتناقض مع "إرثها التاريخي في الحقوق والحريات" كما يظنون، وكما لا نعتقد بصحته لأسباب كثيرة سيرد بعضها لاحقاً.
كما يستطيع المرء، ثالثاً، أن يدرج ذلك بوصفه دفاعاً عن الغرب "المتخيل" لا كما هو في الواقع، هذا على مستوى المصرّح به؛ أما في المُضْمَر فإنه يندرجُ في إطار السعي لغسل سمعة الشعوب البيضاء، عبر الحديث عن شرخ بين هذه الشعوب وحكوماتها، وعن استلاب إرادة الأخيرة من قبل منظومات النظام العالمي الأخرى (الاتحاد الأوروبي، الناتو، الولايات المتحدة).
وإذا ما كانت لغة الدبلوماسية، تقتضي من الدبلوماسيين و السياسيين أن يعتمدوا هذا الفصل بين الشعوب والحكومات، معربين عن إدانتهم لسياسات الحكومات الأوروبية، مُحَيدين شعوبها عن لوثاتها وأخطائها، فإن التحليل العلمي الموضوعي ليس مضطراً لذلك، فضلاً عن أنه يأباه، فلا يستقيم معه أنَّ شعوباً تعيش في ظل "نظم ديمقراطية عريقة" لا تأبه لها حكوماتها، وتنتهج سياسات تتعارض مع تطلعات تلك الشعوب.
-2-
ولتفسير معرفي-إبستيمي لوضعية كهذه يبزغ أمامنا احتمالان: إما أن هذه النظم الغربية غير ديمقراطية، والوقائع الظاهرة لا تؤيد هذا الاحتمال، فهناك انتخابات وحياة سياسية وأحزاب وتداول سلطة وحريات التعبير والرأي ووسائل الإعلام؛ وإما -وهذا هو الاحتمال الثاني الأقرب الى المعقولية- أن سياسات هذه الدول متطابقة مع خيارات شعوبها التي انتخبتها وأن ما يقوله "أصدقاؤنا" الفرنسيون ليس إلا ذراً للرماد في العيون في محاولة لتبييض سمعة شعوبهم، وربما، "اعتذار مضمر" عن صمت هذه الشعوب تجاه التناقض الظاهر في سياسات حكوماتها، مع الأخذ بالحسبان صدق النيات، ووجود أوروبيين آخرين يقولون الشيء نفسه.
قال أصدقاؤنا قولهم، لكن المسكوت عنه فيما قالوه نعتقد أنه يتجلى في وقائع كثيرة صادمة للوعي، وغير مفسرة في السياق التقليدي القياسي لـ"الباراديغم الديمقراطي" وتوأمه "الباراديغم الإنساني الغربي" الذي برهنت سياقاته التاريخية إتاحته (كثير من الحريات قليل من الديمقراطية) بحيث يخفي فائض الأولى عوز الثانية. والحديث هنا، ولاحقاً، ليس "هجاءً" للديمقراطية فهي حتى الآن المسار الأفضل لأي نظام حكم، بقدر ما هو حديثٌ عن بعض الخلل الذي تضمره آلياتها مما يبعدها عن تحقيق أهدافها على الوجه الأكمل.
ولكي تستقيم الموضوعية في التحليل، لا بد أولاً من استحضار المشهدية التي سبقت الحرب على العراق في عام 2003، مشهدية تفيض منها "إنسانية" الشعوب الغربية: مظاهرات عارمة تجتاح المدن والعواصم، ترفض الحرب، وتناهض قرار حكوماتها المشاركة فيها أو دعمها. والمتابع لتلك المشهدية يتأكد له مطابقتها لما جرى غرسه وتسويقه وتعميمه عن هذه الشعوب حاملة لواء القيم وحقوق الانسان، والمدافعة عن الحريات والمتصدية لمهمة نشرها وحمايتها. مشهدية صنعت بدقة متناهية لتظهير مدى تمتع هذه الشعوب بالحريات، ومدى نجاعة الديمقراطية كأسلوب حكم يجعل ممكناً ومتاحاً رفض السياسات الحكومية، إذا لم تكن معبرة ومتطابقة مع تطلعات الشعوب أو إذا لم تنل رضاها.
ولكن، ماذا في النتائج؟ تظاهرت الجموع بمئات الآلاف ونددت واستنكرت واعتصمت ورفضت، تم "تسييل" ذلك إعلامياً بقدْرٍ فائقٍ من الصنعة والدهاء، وربما صدقنا نحن الشعوب التي توصف بأنها ترزح تحت نير "الاستبداد والديكتاتورية" أن ذلك سيجدي نفعاً، وأن قائمة تلك الحرب لن تقوم. إلا أن ما حصل هو العكس، كل ذلك واجهته تلك الحكومات المنتخبة بـ "أذن من طين وأذن من عجين" شانةً حربها المدمرة على العراق موقعةً الملايين من الضحايا قتلى وجرحى ومعاقين، ودماراً شاملاً على مساحة البلاد التي لم تقم لها قائمة بعد أكثر من عقد ونيف على تلك الجريمة. (الاستثناء الوحيد هنا كان الحكومة الفرنسية التي رفضت المشاركة في تلك الحرب، لأسباب ليس لها علاقة بحقوق الإنسان وسيادة الدول وحق الشعوب في تقرير مصيرها -كما أريد تظهيرها- بقَدْر ما كان لها علاقة بالعقود التي كانت حكومة شيراك قد أبرمتها مع العراق، وكانت الحرب ستطيح بها وبمنافعها على الاقتصاد الفرنسي، طبعاً دفعت فرنسا شيراك الثمن مرتين، مرةً بخسارتها لتلك العقود وعوائدها بعد الإطاحة بحكم صدام حسين ومرةً بحرمانها من عقود إعادة الأعمار، ما دفعها للعودة صاغرة إلى حظيرة " المجتمع الدولي"، والانغماس في مجرى سياساته "عبر البحث عن طريقة لتلك العودة كان القرار 1559 مفتاحها"[4]).
إذن، صمتت تلك الشعوب "الحرة"، وتغاضت عن كل النتائج الكارثية للحرب، رغم افتضاح دليل قيامها على كذبة كبرى، فلا تثريب على "الكَذَبة" طالما أن الدليل الأهم بالنسبة لهذه الشعوب كان دليلاً اقتصادياً ساطعاً، فالحرب انعكست نمواً على اقتصادياتها وازدياداً في العقود وبالتالي التشغيل، فلا غضاضة أن يدفع العراقيون وغيرهم الثمن، لم نسمع أن محاسبة فعلية جرت لأي من هذه الحكومات، ولم نشهد تظاهرات أو مطالبات بإسقاطها، ولا تعدو المحاولة الخجولة لإدانة بلير مؤخراً[5] والتي لن تفضي الى أي شيء يمكن أن يعيد للعراقيين شيئاَ مما فقدوه، إلا محاولة بائسة لإعادة مَنْتَجَةِ صورة "الرجل الأبيض" الديمقراطي الذي يحاسِب على "الخطأ" مهما طال الزمن، ولا يغير من الأمر شيئاً سماع بعض الأصوات هنا وهناك تفضح وتدين ما جرى.
أما القول: إنَّ الحكومات في بعض الدول المشاركة في الحرب لم يعد انتخابها، بسبب مشاركتها تلك، رغم أنه يحمل قراءة رغبوية للوقائع والأحداث محكومةً، ربما، بتلك الصورة المُنَمطة عن نجاعة الديمقراطية الغربية، إلا أن ذلك يعني، إن صح، أن آليات الديمقراطية يمكن أن تحمل فعلاً إمكانيات لتصحيح الأوضاع، لكنها هنا تأتي متأخرةً جدّاً بعد أن يكون الخراب قد حلّ والسياسات القديمة قد حققت أهدافها، تتغير الحكومات لعدم الرِّضا عن سياستها؛ لكن، ماذا عن نتائج تلك السياسات؟ ماذا عن الدول التي دُمرت والأرواح التي أُزهقت؟!
-3-
في المسكوت عنه في قراءة سلوك هذه الشعوب، بعيداً عن التفسير الذي يريح ضميرنا وضمير أصدقائنا حول الانفصال "المفارقة" بين الحكومات الأوروبية وشعوبها، وعن مصادرة "استبدادية" لإرادة الحكومات والشعوب لصالح منظومات متحكمة أعلى، والذي يُرادُ منه إبراء ذمة هذه الشعوب، وهو إبراء باعتقادنا صعب إن لم يكن مستحيلاً، لأن المرء يحتاج إلى قَدْرٍ كبير من السذاجة، إن لم يكن من الغباء، لكي يصدق ذلك، وإلى قدر كبير من الشجاعة والجرأة والتفكير من خارج الصندوق ليسأل عما إذا كان الأمر كذلك فعلاً، فما فائدة الديمقراطيات ونظمها الانتخابية إذا كانت ستنتج حكومات لا تمثل إرادة شعوبها؟! ولأننا لم نوهب القدر المطلوب من السذاجة أو الغباء ليس أمامنا إلا القول: إنَّ سياسات هذه الحكومات متطابقة مع إرادة شعوبها كما أشرنا آنفاً.
يتطلب الأمرُ العملَ على محاولة لتفسير صمت هذه الشعوب، الذي يُعَدُّ دليلاً دامغاً على هذا التطابق (مرة أخرى وجود أصوات هنا أو هناك تعبر عن عدم التطابق، وهو أمر مطلوب ومحمود في المنظومة "الديمقراطية" نفسها، إلا أنه لا يغير من الأمر شيئاً، خاصةً أنه مجرّد عن أي إمكانية للتأثير في مجرى السياسات).
في المحاولة الأولية للتفسير، يبزغ احتمال أنها (أي الشعوب الغربية) تخضع لتأثير سرديّةٍ أحاديّةٍ عمّا يجري في منطقتنا، سرديّةٍ أريد لها أن تصوغ مدارك هذه الشعوب حول "ثورة شعوب مظلومة على حكامها الطغاة وحكمهم الاستبدادي الديكتاتوري"، تتضمن هذه السردية الأحادية مشهديةً مصنوعة بحِرَفيّةٍ، صاغت واقعاً فائقاً مصطنعاً محتوياً كلَّ مستلزمات الإقناع بصدقِ وواقعيةِ ما يقدمه، واقعاً يحضر بقوة وبتكرار منهجي مشكلاً وعياً زائفاً، لنقلْ: منقوصاً، عن حقيقة ما يجري، وبذا يتم استلاب الوعي وتقبل النتائج (مهما كانت كارثية) طالما أنها مُحصّلة محتومة (لواقع كارثي) و (لم يكن بالإمكان أحسن مما كان)، إنّها كما وصفها "شلر" ليست إلا تلاعباً ممنهجاً بالعقول، تلاعباً اشتغلت عليه المنظومات الإعلامية-السياسية في الغرب، عبر التحكم بضخ الصور والمعلومات التي لا تتطابق مع حقائق الواقع بالضرورة، والمراد بها صوغ المعتقدات والمواقف ومن ثم تحديد السلوك، إن تضليل عقول البشر بهذه الطريقة وفقاً لـ"شلر" هو وسيلة للتطويع وأداة رئيسة للسيطرة وتمرير السياسات[6] وهكذا مثلاً، بعد أن تمت الإطاحة بـ"القذافي" بطائرات الناتو بذريعة حماية المدنيين، غابت ليبيا عن الصورة، ولم تعد أحداثها الناضحة بوحشية الاقتتال الدائر فيها في بؤرة المشهد.
تلك المشهدية والسردية المصاحبة لها، تواطأت كبريات وسائل الإعلام على الانخراط فيهما منذ بَدْء الأحداث في المنطقة العربية، بحيث بتنا نجد، مثلاً، صورة الطفل "عمران"، الناجي والحي، تحتل في يوم واحد، مساحات النشر والتغطية كاملة[7]، وتُبكي مذيعة السي إن.إن. من هولها ( 18/08/2016 ) رغم أن مشاعرها المرهفة لم تهتز للصورة المغيبة لـ"عبد الله" الطفل المذبوح على يد "المعارضة المعتدلة" المدعومة من حكومتها ومن الحكومات الأوروبية، إذ كان جلّ ما يتمناه موتاً "أرحم" بالرصاص لا ذبحاً.
يمكن اعتماد التفسير السابق لاستلاب الوعي، إذا ما أردنا أن نبقى مخلصين للصورة النمطية السائدة عن شعوب حرة مالكة لقرارها، والتي ستنتج في اللاشعور تعاطفاً مع هذه الشعوب لا إدانة لها. إلا أن التعمق في تحليل وضعية صمت هذه الشعوب، لا يركن إلى هذا الاحتمال فقط، وإن كان لا يرفضه، حيث إنَّ معطيات عديدة وصارخة تبرز متحدية، وتفرض على المرء القول: إنَّ هذه الشعوب ترزح تحت وطأة قدر كبير من الأنانية والتمحور حول الذات، يجعل اهتمامها الأول سلامها ورفاهيتها، والانشغال بكل ما يمكن أن يهددها: ضرائب ،بطالة، ازدياد سن التقاعد، ساعات العمل، الضمان الصحي...إلخ، فكل ما يمكن أن يعزز وضعية الرفاه والسلامة هو مقبول أياً كان سببه أو مصدره، وكل ما عداه مرفوض، وهذا وحده المعيار الذي يجعلها تتصدى لحكوماتها أو لا.
-4-
يمكن القول، بتبسيط غير مخل، إن هذه الشعوب إنما تتكئ على تاريخٍ بعيدٍ-قريبٍ، بَنَت من خلاله أسباب قوتها ورفاهها من نهب خيرات الشعوب الأخرى، سابقاً بالقوة عبر الاستعمار والانتداب والوصاية، والآن من خلال أدوات العولمة الرأسمالية المتوحشة، وبإهاب أكثر نعومة وإنسانية في بعض الأحيان، وعبر "حروب بالوكالة"[8] عندما يقتضي الأمر، وهو تكتيك أثبتت الأحداث الراهنة أنه ناجع إلى حد كبير في التدخل الاستعماري المموه من حرب "الكونترا" في نيكاراغوا إلى "جيوش المجاهدين" في سورية التي تحارب بالوكالة عن مشغليها، وطالما أن القوى الكبرى لا تشارك مباشرةً في هذه الحروب، فإنَّ الجمهور الغربي يجد فكرة دعم الوكلاء فكرة جذابة جداً حيث إنه يساعد شعباً آخر ينتفض للحصول على حريته[9].
شعوبٌ تقبل بأن تسفح كرامة دولها على مذبح الدولار والصفقات، فتتغاضى عن الغياب التام للديمقراطية وحقوق الإنسان، في السعودية مثلاً، وتتجاهل أنها من الدول المصدرة للفكر الإرهابي وبأنها تمتلك نظام حكم ينتمي للقرون الوسطى المنقرضة، طالما أنها توقّع صفقات بالملايين مع حكوماتها تضمن استمرار دوران عجلة الاقتصاد وانتعاشه بما ينعكس إيجاباً على رفاه الشعوب الغربية، وسلباً على حساسيتها تجاه معاناة الشعوب الأخرى.
شعوبٌ من المفترض أنها تتكئ على تراث عقلاني نقدي، يعتمد الشك مدخلاً وممراً إجبارياً لليقين، وينتهج التقصي والتدقيق ورفض امتلاك الحقيقة الواحدة مدخلاً لاعتماد الرأي الآخر وقبوله، مع ذلك تقبل رواية واحدة عما يحدث في أماكن أخرى من العالم، وكأنها نص مقدس لا يأتيه الباطل لا من بين يديه ولا من خلفه.
شعوبٌ تقبل أن تقرأ وتسمع في وسائل إعلامها، وتصريحات سياسييها "المنتخبين" تسميةَ المتمردين الذين يحملون السلاح في وجه دولهم "ثواراً" وتتغاضى عن اختراع تسمية "معارضة مسلحة" لهم، تسمية يجفل منها علم السياسة وتنفر منها أدبياته، فضلاً عن أنها تتناقض مع قوانين العقل؛ لأنها تشبه الحديث عن " دائرة مربعة" فإذا كانت هذه لا يمكن أن يكون لها وجود، فإن تلك، أي "المعارضة المسلحة" لا يمكن أن تكون إلا بفك الارتباط بين طرفي المصطلح، فالمعارضة مصطلح ينتمي إلى حقل الممارسة السياسية السلمية ولا يمكن أن تقترن بحمل السلاح حيث تغدو " تمرداً" و "خروجاً على القانون" يحتم على الدولة مواجهتها والتصدي لها. هذه الشعوب لم تسكت فقط على هذه المفارقة، بل قبلت باستخدامها كحقيقة علمية تعبر عن "حقيقة واقعية" وهي لا هذه ولا تلك، فضلاً عن أنها لم تقبل ولا يمكن أن تقبل وجود أمثالها في دولها (الجيش الجمهوري الإيرلندي ومنظمة الإيتا الانفصالية في إسبانيا مثلاً).
شعوب تقبل أن تعتمد تأثيم حكوماتها وتجريمها لجيوش وطنية؛ لأنها تتصدى لمتمردين يحملون السلاح ضد مواطنيهم ويدمرون منشآت بلدانهم ويخربون اقتصادها، وتسكت عن دعم حكوماتها لهم إعلامياً وسياسياً ولوجستياً مُشرعنةً أفعالهم، وتنسى أن أحد حكامها المنتخبين "ديفيد كاميرون" هدد بإنزال الجيش لمواجهة المتظاهرين والمحتجين و" أفعالهم الإجرامية"، كما وصفها بعد ثلاثة أيام فقط من نشوب الأحداث في لندن[10] التي شهدت أفعالاً مشابهة لأبسط وأقل مما قام ويقوم به "ثوار" سورية.
شعوب تقبل وتسكت عن فرض حكوماتها "عقوبات" اقتصادية على دولٍ و شعوبٍ بأكملها، وهي ممارسة يرفضها القانون الدولي ويسميها "إجراءات قسرية من جانب واحد". وهي بالتأكيد لا تستطيع الادعاء بأن مثل هذه الاجراءات ليست موجهة ضد الشعوب، أو لا تضر بها، بعد أن علم القاصي والداني ما أدت إليه هذه "العقوبات" من كوارث على العراق مثلاً[11]، والتي كان أكثرها فداحة موت أكثر من مليون طفل عراقي (وصفته مادلين أولبرايت بأنه الثمن المناسب للحصار! أثناء تكريم الغنوشي لها في تونس في 07/03/2015)، فضلاً عن تدمير اقتصاده ووقوعه في كارثة إنسانية، بسبب نقص الغذاء والدواء، والتي يراد لسورية مصيراً مشابهاً له عبر إجراءات مماثلة[12].
شعوب تتعامى عن تعامل حكوماتها في الاقتصاد مع تنظيمات إرهابية. فهي لم تسكت فقط عن مقاطعة شراء النفط من الحكومة السورية -والذي كانت عوائده تستخدم لتقديم الخدمات للسوريين من صحة وتعليم-بل سكتت عن رفع الحظر عن شراء النفط السوري بعد أن استولى عليه "داعش" و"النصرة" والتنظيمات المسلحة الأخرى [13].
شعوب ترضى بطواعية واستكانة لا نشهد لهما مثيلاً، ربما إلا عند تلك الشعوب الخاضعة لحكام " مستبدين" أو "ديكتاتوريين"، وتقبل أن تتم الاستهانة بعقولها، عندما تسمح لوسائل إعلامها وسياسييها أن يتحدثوا في وقت واحد، عن دعمهم لمتمردين على حكومات شرعية (سورية مثلاً)، وعن محاربتهم لـ "المتمردين" الذين خرجوا على حكومات "شرعية" (اليمن مثلاً).
شعوب تسكت عن تهديد أمن شعوب أخرى، وعن إسهام حكوماتها بحروب على أراضي الغير -بشكل مباشر أو غير مباشر- وتدفع بمواطني تلك الدول المنكوبة لركوب الموت بحثاً عن ملاذ آمن، حيث يحين وقت تمثيل دور الأوروبي الغربي الناضح إنسانيةً مفرطةً، عبر استقبالها وعنايتها باللاجئين الفارين من الموت، إلا أن المُضمر في سلوكها هذا يشي بما هو أفظع تحت هذا القناع الأخلاقي الخارجي: هذه الحروب التي صدّرت لها هؤلاء اللاجئين سدت فجوة كبيرة في حاجاتها لليد العاملة، فضلاً عن رفدها بعدد كبير من الكفاءات العلمية، وهذه المرة أيضاً كانت مستفيدة لا متضررة، وهي ستعيد " بعد الفرز والتوضيب" كل من ليس لها به حاجة، بموجب اتفاقاتها الأخيرة مع تركيا. إنها بذلك تستمر في ممارسة سرقة موصوفة للموارد البشرية[14] بعد سرقة الموارد الطبيعية التي اعتادت عليها منذ عهود الاستعمار، لمنع توفير الشروط التي قد تنتج أي امكانية لحدوث نهضة أو تقدم في بلدان (الأطراف)، مما يتيح استمرار عوامل قوة وازدهار بلدان (المركز)[15].
-5-
يضيق المجال بالأمثلة والحالات الواقعية المماثلة التي تستعصي على الفهم فضلاً عن القبول، ويبدو أن التفسير الأكثر معقولية هو ما تقدمه المكيافلّية بصيغتها الفجة: "الغاية تبرر الوسيلة" وما توفره سليلتها الأكثر حداثة "الفلسفة البراغماتية" أيضاً بصيغتها الأكثر فجاجة: "الحقيقي والصحيح وما يجب اعتماده هو ما ينفع أو ما ينجح في الممارسة"، مضحية على مذبح الربح والمنفعة والمصلحة بكل ما يلهج به الغرب عن الأخلاق والمبادئ الإنسانية. فلا بد من الحروب للحصول على الثروات للخروج من عنق الزجاجة عند مفترق كل أزمة اقتصادية حيث تنتعش اقتصاديات الغرب مرتين، مرة بالحروب وأخرى بإعادة إعمار ما تم تدميره.
لا مشكلة عند هذه الشعوب طالما أنها مستفيدة من كل ذلك أو على الأقل غير متضررة. تظاهرت واحتجت لأنها كانت رافضة أن يشارك أبناؤها في الحرب على العراق، لكنها في حالة "الربيع العربي" في سورية وليبيا واليمن لا تكترث طالما أن هناك من يدفع الثمن بالقتال والقتل من أبناء تلك الدول أو من مرتزقة غرباء ممولين من دول أخرى. لن تهتم طالما أن مثل هذه الحروب بالوكالة تنعكس إيجاباً على اقتصادها وتنعش مصانع أسلحتها وشركاتها الأمنية، وتجتذب الإرهابيين من دولها إلى "دار الحرب" بعيداً عن أوروبا، وبعنصرية فائقة، تقبل أن تسهل حكوماتها لهؤلاء طريق الخروج، مانعة عنهم سبل العودة[16]، فلا بأس أن يقتلوا ما شاءُوا من مواطني الشعوب الأخرى والأفضل أن يُقتلوا هناك، فمن غير المسموح أن يهددوا أمن "الرجل الأبيض".
بتأثير من التركة الاستعمارية، تحافظ الشعوب الغربية على ثقافتها الخاصة[17] بوصفها الثقافة المركزية، قلْ: العالمية، مهمشةً دور الشعوب الأخرى التي يجب أن تظل أطرافاً تدور في فلك المركز. وكأن لسان حالهم يقول: "فلتستمر إذن هذه الحروب"، وسيستمر سكوت الشعوب البيضاء الديمقراطية عن أهوالها طالما أنها تصب في خِرَاجِها.
لعل فوزُ "دونالد ترامب" في الانتخابات الأمريكية، وفوز "فرانسوا فيون" في الانتخابات لاختيار مرشح عن "حزب الجمهوريين" الفرنسي لخوض الانتخابات الرئاسية الفرنسية في شهر أيار القادم، يحملان مؤشرات بدء رياح التغيير في السياسات الغربية، ربما بعد استنفادها لإمكانياتها أو تحقيقها لأهدافها، وقد يكون مؤشر صحوة "متأخرة" للشعوب الغربية، بشكل خاص فيما يتعلق بمكافحة الإرهاب والأزمة السورية والموقف من روسيا.
فقط الوقت والسياسات القادمة هما الكفيلان بإثبات ذلك.
[1] - آلان كورفيز و ريشار لابفيير، ندوة "الأبعاد الاستراتيجية للحرب على سورية" التي أُقيمت في قاعة المؤتمرات في جامعة دمشق في الثاني والعشرين من تشرين الأول 2016، ويمكن العودة إلى التغطية الإعلامية للندوة على موقع وكالة سانا.
[2] - للمزيد انظرْ: جورج قرم، تاريخ أوروبا وبناء أسطورة الغرب، ترجمة: رولى ذبيان، دار الفارابي، بيروت، 2011.
-[3] تيم أندرسون، الحرب القذرة على سورية، ترجمة: ناهد تاج هاشم، مركز دمشق للأبحاث والدراسات، دمشق 2016 ص 287.
[4] - آلان كورفيز و ريشار لابفيير، ندوة "الأبعاد الاستراتيجية للحرب على سورية "، انظر أيضاً: ميشيل ريمبو، عاصفة على الشرق الأوسط الكبير، ترجمة لبانة مشوح، اتحاد الكتاب العرب، 2016.
[5] - الإشارة هنا إلى تقرير تشلكوت حول دور بلير في الحرب على العراق، يمكن العودة إلى مانشيت صحيفة ذا صن البريطانية "أسلحة الخداع الشامل" 8 تموز 2016.
[6] - شلر، هربرت، المتلاعبون بالعقول، ترجمة عبد السلام رضوان، سلسلة عالم المعرفة 106، الكويت 1986، ص ص 5-9
[7] - للمزيد أنظر مانشيتات الصحف الغربية وتعليقات القنوات حول الموضوع، الهيئة السورية للإعلام 19/08/2016.
[8] - انظر سامي كليب، الأسد بين الرحيل والتدمير الممنهج، دار الفارابي، بيروت، ط7، ص 449.
[9] - تيم اندرسون، الحرب القذرة على سورية، ص ص ،288،291،24.
[10] - إشارة إلى الأحداث التي جرت في شمال لندن "توتنهام" 06/08/2011 والتي افضت إلى مقتل 4 أشخاص وجرح 111 رجل شرطة و16 من المتظاهرين واعتقال 11 ألف شخص. للمزيد انظرْ: جريدة الحياة، 7،8،9،10 آب 2011.
[11] -التيجاني بو العوالي، الموت على طريقة الكاوبوي، مركز الحضارة العربية، القاهرة، ط1، 2008، ص41.
[12] - للمزيد انظرْ: تيم اندرسون، مصدر سابق ص ص 241، 253.
[13] - حول قرار الاتحاد الأوروبي شراء النفط من "المعارضة" السورية، انظرْ: وكالة فرانس برس، 22/04/2013
[14] - انظرْ ما ورد حول طلب كولن باول من الرئيس الأسد عدم استقبال العلماء العراقيين في سورية: سامي كليب، مرجع سابق، ص142. ما حدث أنه جرى العمل على استقطاب هؤلاء العلماء إلى الغرب، والباقي تمت تصفيته كما هو معروف.
[15] - للمزيد انظر سمير أمين، التطور اللامتكافئ، ترجمة: برهان غليون، دار الطليعة بيروت، 1974.
[16] - انظرْ: الاندبندنت 23/12/2013: البدء بإجراءات سحب الجنسية من المقاتلين البريطانيين في سورية، وأيضاً تفكير ألمانيا وسويسرا بإجراء مماثل وفقاً لتصريح (ليا ويرتايمر) من وزارة الدولة للهجرة في سويسرا، وما قاله وزير الخارجية الألماني (توماس دوميزيير) حول الموضوع نفسه في 12/08/ 2016، وأيضاً القانون الأسترالي في هذا الشأن 12/2015، وتعديل القانون الهولندي حول الجنسية في عام 2016.
[17] - اندرسون، مرجع سابق، ص288.
التعليقات
Gold dribble within presiding exercise?
Countersinking bezodiazepines margin, art disabled.
من الحقيقي أن دول النظام
الوضوع مهم لكنه طويل ومتقطع
المشكلة العويصة، أننا في
إضافة تعليق جديد